لعل موهبتي الرسم والشعر هما الموهبتان الوحيدتان التي يمكن تصنيفهما بأنهما موهبتين حقيقيتين , أو فطريتين .
وأعني بذلك بأنه من المستحيل تعلمهما أو تعليمهما .
إن أية موهبة أخرى قد يتم تعلمهما وتعليمها , كالخط – أو الغناء – أو العزف الموسيقي … الخ .
وقد يبرع الشخص فيها لأنه قد يعشقها ثم يميل لها ثم يتقنها .
بينما موهبتي الشعر والرسم فمهما عشقها المرء ومال لها – لن يتقنها ما لم يكن مهيأ من الأساس لذلك , رغم أنه قد يتقن أساسياتها وقواعدها . ولكن هذا الإتقان يكون ( صناعيا ) خاو من المشاعر والأحاسيس والإبداع .
ولو تركنا الشعر جانبا لأن هذا الموضوع لا يعنيه من قريب – وركزنا على ( الرسم ) , سنجد بأن الرسام ما كان رساما إلا وفيه محفزات فطرية لذلك .
وهي ثلاثة محفزات أو فل نقل ثلاث ( قدرات ) لا يمكن لأي شخص أن يكون رساما إلا إذا كانت فيه الثلاث أو على الأقل اثنتين منها :
1- شدة الملاحظة : وهذه المقدرة نجدها في كثير من الناس ., من رسامين وغيرهم . وهذه المقدرة بالطبع ليست بسرعة البديهة كما يتصور البعض , وإنما هي ملاحظة أدق الأشياء من لمحة سريعة .
2- الذاكرة الصورية القوية : لا يكفي أن تكون شديد الملاحظة ولقط أبسط التفاصيل التي تشاهدها أمامك من لمحة سريعة , فأنت هنا كالشخص الذي يحمل بيده مجرفة كبيرة تحمل أكثر مما يحمله الشخص الآخر بيده , بيد أن هذه المجرفة إن كانت مخرمة كالغربال فما الفائدة منها !! فما جمعته فيها من غرفة واحدة وبسرعة فائقه سوف يتبعثر بسرعة أيضا .
وما هذه المجرفة في الحقيقة إلا ( الذاكرة ) , فإن كانت ذاكرتك قوية تحتفظ بأدق التفاصيل ( الصورية ) , مع مقدرة على الملاحظة السريعة والقوية – فأنت هنا مخلوق مهيأ للرسم أو لأي عمل خلاق يعتمد على هاتين المقدرتين . ولا ينقصك الآن إلا الضلع الثالث للمثلث , فما هو الضلع الثالث المكمل لهذه الموهبة ؟! .
3- اليد المترجمة : الضلع الثالث ( اليد المترجمة ) , وقد سميتها بهذا المسمى لأنها بالفعل بمثابة المترجم لما يتفاعل في صدورنا من مشاعر وأحاسيس وصور وخيالات , فإذا كان فم الشاعر ولسانه هما المترجمان لمشاعره , فيد الرسام تترجم مشاعره وأحاسيسه بنفس الطريقة . ولكن ليس ( سماعا ) وإنما ( نظرا ) .
ولكن هل كل الأيادي قادرة على ذلك ؟!
بالطبع لا .. ولو كانت كل يد قادرة على القيام بهذا الأمر لكان معظم الناس رسامين .
إن كل شخص له مقدرة معينة على ضبط بنانه والتحكم العصبي بها , ولذا فالشخص الأكثر تحكما هو الأكثر مقدرة ليس على الرسم وإنما على قدرات مختلفة تعتمد على الدقة وخفة اليد , ومنها عازفي الآلات الموسيقية والجراحين وغيرهم .
بل حتى مهندسي الآلات الدقيقة لابد من تمتعهم بهذه الصفة أو المقدرة , وكلنا قد شاهدنا مصلحي الساعات الدقيقة وكيف يلتقطون بأيديهم قطع في منتهى الصغر ويضعونها في أماكنها الصحيحة بسهولة وبراعة فائقة .
اذا حتى يكون الرسام رساما لابد أن يكون أيضا ذات مقدرة فائقة على التحكم في أعصابه , وليس فقط بيديه لأن الرسام قد يرسم بفمه أو قدمه وليس شرط أن يرسم بيديه .
وحتى يعرف الشخص مدى تحكمه في أعصابه – فأسهل الأمور أن يرسم على ورقة خطوطا مستقيمة تحت بعضها , و عندها ينظر إلى تلك الخطوط , فكلما كانت الخطوط أكثر توازيا كلما كان هذا الشخص أوفر حظا في مجال الرسم , وأكثر مقدرة على التحكم وضبط أعصابة , ويديه ستكونان دقيقتين في الرسم , وإن كانت تلك الخطوط متباعدة ومشوشة فهذا يعني بأن هذا الشخص يعاني من ضعف في التحكم في أعاصبه قد يكون ذلك معيق له في اقتحام عالم الفن التشكيلي أو الرسم .
نلاحظ الآن بأن موهبة الرسم تعتمد على ثلاثة أشياء في جسم الإنسان :
1- العقل : كمحلل للصور التي تشاهدها والخيالات التي تتخيلها . ثم يشكلها بالطريقة التي يراها مناسبة .
2- الذاكرة : كمخزن لتلك الصور والأشكال والرموز. سواء الخام منها . او المعالجة بواسطته .
3- الأعصاب : القادرة على نقل تلك الصور في الذاكرة أو الخيال إلى أرض الواقع بواسطة أي جزء مناسب من أطراف الإنسان .